فصل: مسألة الحج والغزو أيهما أحب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تصدقت عليه بالمهر وهو عليه فقبل الصدقة:

وسئل: عن رجل سأل امرأته أن تتصدق عليه بمهرها، فتصدقت عليه به، وكان لها به كتاب، ثم إنه سخط فرد عليها الكتاب بعد ذلك بأيام، فقبلته بشهود، ثم توفى الرجل، فهل ترى لها شيئا؟ قال: لا شيء لها في ذلك الصداق، وهو بمنزلة ما تصدق عليها به من ماله فلم يقبضه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأنه لما تصدقت عليه بالمهر وهو عليه، فقبل الصدقة منها بقبضه الكتاب، سقط عنه المهر، وصار رده الكتاب إليها ابتداء صدقة على غير عوض، فوجب أن يبطل إذا مات وهو عليه قبل أن يقبضه منه. وبالله التوفيق.

.مسألة وكل آخر في التصدق بمائة دينار فمات المتصدق قبل قبضها:

ومن كتاب يوصي لمكاتبه:
قال: وسئل ابن القاسم: عن رجل تصدق على رجل بمائة دينار، وكتب إلى وكيل له ليدفعها إليه، فقدم على الوكيل بالكتاب، فدفع إليه الوكيل خمسين، وقال له: اذهب، سأدفع إليك الخمسين الباقية، اليوم أو غدا، فمات المتصدق قبل أن يقبض المتصدق عليه الخمسين الباقية من الوكيل، قال: لا شيء له منها إذا لم يقبضها حتى مات المتصدق بها، وليس أكثر من الخمسين التي قبض؛ لأن الوكيل بمنزلته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن يد الوكيل كيد موكله، فلا فرق بين أن يعده بدفع بقية ما تصدق عليه هو أو الوكيل إذا مات قبل أن يدفع ذلك إليه. وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق عليه حتى تلد أولادا:

قال: وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق عليه حتى تلد أولادا، هل يأخذها هي وولدها؟ قال: نعم، يأخذها وولدها؛ قلت: فإن قتل بعض ولدها فأخذ السيد له أرشا أو أصيبت هي بقطع يد أو رجل أو غير ذلك، فأخذ السيد بذلك أرشا، هل يأخذها ويأخذ أرش ولدها وجسدها؟ قال: نعم، يأخذها وأرش ولدها ويدها ورجلها وما أصيبت به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين لا اختلاف فيه؛ لأن الأمة قد وجبت له بالصدقة، وولدها الذي ولدته بعد الصدقة بمنزلتها، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها»، فلما يأخذها وولدها، فكذلك يأخذ قيمة ولدها إذا قتل، وأرش ما أصيبت به في جسدها إذا جني عليها، وإنما وقع السؤال على هذا القول، من يقول: إن الهبة والصدقة لا تلزم الواهب والمتصدق، وله أن يرجع عنها ما لم يدفعها، ولا يحكم عليه بها إلا بعد قبضها، وهو ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه عامة. وبالله التوفيق.

.مسألة الحج والغزو أيهما أحب:

وسئل: عن الحج والغزو، أيهما أحب إليك؟ قال: الحج، إلا أن يكون خوف، قيل له: فالحج والصدقة؟ قال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة، قيل له: فالصدقة والعتق؟ قال: الصدقة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحج أحب إليه من الغزو، إلا أن يكون خوفا- معناه: في حج التطوع لمن قد حج الفريضة. وإنما قال ذلك؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»؛ لأن الجهاد وإن كان فيه أجر عظيم، إذا لم يكن خوف، قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات عند الموازية فلا يستوجب به الجنة كالحج، وأما الغزو مع الخوف، فلا شك في أنه أفضل من الحج التطوع والله أعلم؛ لأن الغازي مع الخوف قد باع نفسه من الله عز وجل، فاستوجب له الجنة والبشرى من الله عز وجل بالفوز العظيم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سنة مجاعة؛ لأنه إذا كانت سنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يواس الرجل في سنة المجاعة من ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساة في الجملة، فقد أثم، وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة بالتوفي من الإثم بالإكثار من الصدقة، أولى من التطوع بالحج الذي لا يأتم بتركه، وإنما قال: إن الصدقة أفضل من العتق، لما جاء في الحديث الصحيح من: «أن ميمونة بنت الحارث أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أَوَفَعَلْتِ؟ قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك.» وهذا نص من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في ذلك، قَوَّتْهُ الاستدلالُ عليه بالظواهر، وبالله التوفيق.

.مسألة تصدق على ولده وهم صغار:

ومن كتاب أوصى معه أن ينفق على أمهات أولاده:
قال: وسئل: عمن تصدق على ولده وهم صغار يليهم بدار، وأشهد لهم، وكان يكريها لهم، فلما بلغوا الحوز قبضوها وأكروها منه، فمات فيها، فقال: لا أراها إلا جائزة، إذا كانوا قد قبضوها وحازوها وانقطعوا بالحيازة، وانتقل منها، قيل له: وكم حد ذلك؟ قال: السنة والسنتان.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم استأذن من أن رجوع المتصدق إلى سكنى الدار التي تصدق بها بعد أن حيزت عنه حيازة بينة، حدها العام، على ما نص عليه في هذه الرواية، لا تبطل الصدقة ومثله في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من كتاب الرهون، خلاف الرهن، لا اختلاف في أن الرهن يبطل برجوعه إلى الرهن وإن طالت مدة حيازة المرتهن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي هذه المسألة بيان واضح، إن الأب لو رجع إلى سكنى الدار وبنوه صغار، لبطلت الهبة، وإن كان قد أخلاها ورهنها وحازها لهم بالكراء المدة الطويلة، فتفتقر في هذا حيازة الأب للصغار. وقد نص على ذلك محمد بن المواز في كتابه. وبالله التوفيق.

.مسألة تصدق على ابنه بدار وعمل له فيها ومات وهي في يديه:

وقال فيمن تصدق على ابنه بدار، وعمل له فيها، ومات وهي في يديه: إن الصدقة له باطل، قيل له: فإن أنفذها له الورثة، ثم أرادوا الرجوع فيها، قال: الناس في هذا مختلفون. أما أنا فأرى أن يحلفوا إن كانوا ممن يعرفون بالجهالة، إنهم إنما أنفذوها له وهم يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، ويرجون فيها فيأخذونها.
قال محمد بن رشد: قوله: الناس في هذا مختلفون، في مثل يريد: المخاصمين في مثل هذا وشبهه مختلفون، منهم من يجهل فيصدق إذا ادعى الجهالة، ومنهم من لا يجهل فلا يصدق إذا ادعى الجهالة. إذا كانوا ممن يعرف بالجهالة أن يحلفوا أنهم إنما أنفذوها، وهم يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، وهي يمين تهمة، فيختلف فيها، إلا أن تحقق عليهم الدعوى بأنهم إنما أنفذوها بعد أن علموا أن ذلك لا يلزمهم، فيجب عليهم اليمين قولا واحدا.
ولسحنون في أول نوازله في نظير هذه المسألة أنهم لا يصدقون في دعوى الجهل، وقال: أنت تدفع إليه ماله، وتبيحه له بعدما قد حزته وملكته، ثم قمت الآن تدعي الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت إليه حقا، فقال له السائل: أنا أقيم البينة أنه قد قال: إن هذه الصدقة، لا يجوز لك منها إلا الثلث. وقد سألت عن ذلك الفقهاء وأخبروني بذلك. فقال له: أما إن أقمت البينة على هذا، فأرى لك أن ترجع عليه بما أخذ منك، فلم يصدقه سحنون في دعوى الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت، وهو إقامة البينة على ما زعم من أنهم غروه به، وقالوا له.
ويأتي على قول أشهب في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب: في الذي يزوج ابنته على أنها بكر، فزعم الزوج أنه وجدها ثيبا لا عذرة لها- أنها تلزمه، ولا شيء له، إن الجاهل في مثل هذا لا يعذر بالجهل، حسبما بيناه هناك.
ومثله قول سحنون في نوازله من كتاب العيوب في الذي يشتري العبد، فيقول للتاجر: هل فيه من عيب؟ فيقول: هو قائم العيبين، فيسأل عن القائم العيبين، فيقال له: هو الذي لا يبصر- إن البيع له لازم، وليس له أن يرده، ففي المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه ليس له أن يرجع فيما أنفذ بحال، وإن علم أنه جهل، إذ لا عذر له في الجهل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا من المدونة، في الابن الذي في عيال الرجل يأذن له في مرضه في الوصية بأكثر من ثلث ماله، ثم ينفذ ذلك بعد موته، إنه ليس له أن يرجع في ذلك، ظاهره: وإن كان جاهلا يظن أن إذنه له في ذلك في مرضه جائز عليه.
والثاني: إن له أن يرجع في ذلك إن ادعى الجهل، وكان يشبه ما ادعاه مع يمينه على ذلك وهو قوله في هذه الرواية، وقيل بغير يمين على ما ذكرناه، من أن اليمين في ذلك تهمة.
والثالث: إنه ليس له أن يرجع في ذلك، إلا أن يعلم أنه جهل، بدليل يقيمه على ذلك، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وأخصر من هذا أن يقول: إن في المسألة قولين: أحدهما: إنه يعذر بالجهل، والثاني: إنه لا يعذر، فإذا قلنا: إنه يعذر به، ففي تصديقه فيه قولان، قيل: إنه يصدق، وقيل: إنه لا يصدق، فقيل: يمين، وقيل: بغير يمين. وبالله التوفيق.

.مسألة الصفائح والحلي المكسور والنقر أفيه ثواب:

وسئل: عن الصفائح والحلي المكسور والنقر، أفيه ثواب؟ قال: ليس في ذلك كله ثواب.
قال محمد بن رشد: أما الحلي والنقر فإنه بين أنه لا ثواب في ذلك، بمنزلة الدنانير والدراهم، فلا يصدق من وهب شيئا من ذلك، فإن كان فقيرا والموهوب له غنيا أراد بذلك الثواب له، إلا أن يشترطه. هذا قوله في المدونة؛ لأنه إنما وهب للثواب، ما يتحقق به الموهوب له، مثل الفرس الرائع، والعبد النبيل التاجر، والثوب الحسن، ويشبه ذلك مما يستحسن، فالحلي المصنوع على هذا فيه الثواب، وهو نص قوله في المدونة، وأما قوله في الصفائح: إنه لا ثواب فيها، فإن كان أراد به الصفائح المصنوعة من الحديد لتنعيل الدواب، فالمعنى في ذلك: أنها كثيرة الحديد، لا يتحف بها من أهديت إليه، ولو أهداها إليه في الغزو عند عدمها والحاجة إليها لوجب أن تكون فيها للثواب، فإن كان أراد بها صفائح الذهب، أي: سبائكه، فإنه لا ثواب فيها؛ لأن سبائك الذهب بمنزلة نقر الفضة، لا ثواب لمن زعم أنه أراد بذلك الثواب؛ لأنها بمنزلة الدنانير والدراهم. وبالله التوفيق.

.مسألة تصدقت على زوجها بالصداق فمنت عليه فكتب لها صداقا إلى موته أو حالا:

ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك:
وسئل: عن امرأة تصدقت على زوجها بصداقها، فمنت عليه بعد ذلك، فقال: أنا أكتب لك صداقا فكتب لها صداقا إلى موته، أو حالا، قال: إن لم تقبض الذي كتب لها فلا شيء لها؛ لأنها عطية لم تقبض.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه إذا لم تقبض ذلك في حياته، فلا شيء لها؛ لأنه إن كتب لها ذلك إلى موته، فهي وصية لوارث، وإن كتبه لها حالا فهو كما قال عطية تقبض وقد مضى ذلك في آخر رسم العرية، فلا معنى لإعادته.

.مسألة الرجل يتصدق على امرأته بالمسكن وهو ساكن فيه:

ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل:
قال ابن القاسم، في رجل تصدق على امرأته بالمسكن، والمرأة تتصدق على زوجها بالمسكن، وهما ساكنان فيه. قال: أما ما تصدقت المرأة على زوجها مسكنا كانت تسكنه، فيسكن بها فيه كما هو، فإن سكناه بما فيه حوز له؛ لأن السكنى عليه أن يسكنها، وأما ما تصدق هو به عليها، من مسكن فسكن هو وهي، فلا أرى حوزها حوزا حتى تخرج منه، وتحوزها بما تحاز به الصدقات؛ لأنه كانت السكنى عليه، فلم يحزه بشيء يعرف، وأما الخادم يتصدق بها عليه، أو يتصدق هو بها عليها، فإنه إن كان كل واحد منهما يستخدمها ويرسلها في حوائجه، فإن ذلك حوز لكل واحد منهما، وإن انتفع به الذي تصدق به، وذلك أني سألت مالكا عن الرجل يتصدق عن المرأة بالخادم فيخدمها وتخدمه، هل تراه حِوَازًا؟ قال: نعم، والخدمة عند مالك إنما تكون على الزوج إذا لم يكن للمرأة خادم دخلت بها من صداقها، وقاله أصبغ كله، وكذلك الأمتعة، والوطء وفرش البيت وآنية المنزل، في ذلك كله، أي ذلك تصدق به عليها فهو حوز، وإن أقروه في المنزل معها وكانا يتواطيانه جميعا وينتفعان، إذا أعلن الصدقة بشهادة وبتل وأشهد لها وبالتخلي.
قال محمد بن رشد: أما المسكن الذي يسكنان فيه، فالفرق بين أن تكون هي الواهبة له، أو هو لها- بَيِّنٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَحْفَظُهُ؛ لأن السكنى عليه، فالأشياء سكن معها في ذلك المسكن، وإن شاء أخرجها منه إلى غيره. وأما الخادم فقد اختلف في حيازة كل واحد منهما إياها إذا وهبها له صاحبه، وبقيت على حالها يخدمهما جميعا؛ حسبما مضى تحصيله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، ومضت أيضا في رسم الوصايا الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب وحكم الوطء والثياب وحكم الخادم في مذهب ابن القاسم على ما قاله أصبغ، لا يرهن حيازة المرأة له انتفاع زوجها الواهب له به إذ لا يقدر على الانكفاف من ذلك.
وقوله: إنه يكتفي بالإشهاد على صفة من الإشهاد على عينة- صحيح؛ لأنه إذا وجد بيدها على الصفة الموصوفة في كتاب الصدقة والهبة حمل على أنه هو، فإن ادعى الورثة عليها أنه أَنَّ المتصدق به عليها غيره، وقد غيبته، كان القول قولها مع يمينها، وبالله التوفيق.

.مسألة تصدق الرجل بصدقة على ألا يبيع ولا يهب:

ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار:
قال: وقال مالك: إذا تصدق الرجل بصدقة أو وهب له الهبة، على ألا يبيع ولا يهب. قال: لا يجوز هذا، ويقال للمتصدق: إما أن يغتلها وإلا فخذ صدقتك، قال مالك: إلا أن يكون صغيرا أو سفيها، فيشترط عليه ذلك، إلا أن يحسن حال السفيه، ويكبر الصغير، فيكون لهما بتلا، فذلك جائز.
قال عيسى: أكره أن تقع الصدقة على هذا، فإن وقع مضى، ولم يرد وكان على شرطه.
قال سحنون: إذا تصدق عليه بصدقة أو وهب له هبة، على ألا يبيع ولا يهب، فهي له حبس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: إن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدق أن يبطل الشرط ويمضي الصدقة أو الهبة، فإن مات الواهب أو الموهوب له أو المتصدق، أو المتصدق عليه، بطلت الصدقة أو الهبة، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. ومثله قول ابن القاسم في رواية سحنون هذا من هذا الكتاب في الذي يتصدق على الرجل بالشيء، على أنه إن باعه فهو أحق به، يريد: بالثمن وبغير الثمن، قال: ليست هذه بشيء، ومثله أيضا قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ بعد هذا في الذي يتصدق على رجل بعبد له، ويشترط عليه أن له منه خدمة يومين من كل جمعة، إنها ليست بصدقة إن مات المتصدق، خلاف قول أصبغ فيه من رأيه، فالهبة على هذا القول على الرد، ما لم يجزها الواهب ويمضيه بترك الشرط، فإن استرد هبته من يد الموهوب له، وكان قد سقى وعالج، رجع عليه بما سمى وعالج، قياسا على ما قاله في المدونة في مسألة الفرس.
والقول الثاني: إن الواهب مخير بين أن يسترد هبته، أو ترك شرطه وورثته بعده، ما لم ينقض أمده بموت الموهوب له، فيكون ميراثا عنه، وهذا القول يأتي على ما في المدونة من قوله في مسألة الفرس وإن فات الأجل، لم أر أن يرد، وكان للذي بتل له بعد السنة بغير قيمة على تأويل من رأى أن الفرس ملكا لا حبسا عليه فالهبة والصدقة على هذا القول على الإجازة ما لم يردها الواهب أو ورثته بعده قبل فواتها كانقضاء أمد الشرط، وهو موت الموهوب له؛ لأنه حجر عليه الهبة والبيع طول حياته، وهو قول أصبغ من روايته في رسم الكراء والأقضية من سماعه بعد هذا.
والقول الثالث: إن الشرط باطل، والهبة جائزة، وهذا القول يأتي على ما في المدونة من أن الرجل إذا حبس الدار على رجل وولده، وشرط أن ما احتاجت الدار إليه من مرمة رمها المحبس عليهم أن الدار تكون حبسا على ما جعلها عليه، ولا يلزمهم ما شرط عليهم من مرمتها وتكون رمتها من غلتها، وقد قال محمد بن المواز: إنما ذلك إذا حيز المحبس، ومات بموت المحبس، وأما قبل ذلك فترد، إلا أن يسقط الذي حبسها شرطه، وتأويله بعبد في اللفظ غير صحيح في المعنى؛ لأنه إذا جعل للمحبس حقا في شرطه، وجب أن ينزل ورثته منزلته فيه. وعلى قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة الفرس: إن شرطه ليس مما يبطل عطية له، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون.
والقول الرابع: إن الشرط عامل، والهبة ماضية لازمة، فتكون الصدقة بيد المتصدق عليه، بمنزلة الحبس، لا يبيع ولا يهب حتى يموت، وإذا مات ورث عنه على سبيل الميراث، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقول مطرف في الواضحة. وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن الرجل له أن يفعل في ماله ما شاء، إن شاء بتله للموهوب له والمتصدق عليه من الآن، وإن شاء أعطاه المنافع خاصة طول حياته، وجعل المرجع بعد موته ليقضي من دينه ويرثه عنه ورثته بما له في ذلك من الغرض أن يستديم الانتفاع بما وهبه، وبدا إثر هبته عليه.
والقول الخامس: قال سحنون: إن ذلك يكون حبسا على الموهوب له أو المتصدق عليه بما شرط عليه من ألا يبيع ولا يهب، فإذا مات المتصدق عليه على هذا القول، رجع إلى المتصدق إلى ورثته إن كان قد مات، أو إلى أقرب الناس بالمحبس، على اختلاف قول مالك في المدونة فيمن حبس على معين، وقول سحنون في هذه المسألة معارض لقوله في نوازله في الذي يتصدق على رجل بعبد على ألا يبيعه ولا يهبه سنة، وهذه الأقوال كلها تدخل في مسألة سماع سحنون، في الذي يتصدق على الرجل بالشيء على أنه أحق به إن باعه بثمن أو بغير ثمن إلا قول سحنون، وسيأتي في رسم الجواب بعد هذا من هذا المعنى مسألة الذي يهب الجارية للرجل على أن يتخذها أم ولد، ونتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.

.مسألة تصدقت على زوجها بمهرها أو بشيء من مالها ثم طلبت المثوبة:

قال ابن القاسم: إذا تصدقت المرأة على زوجها بمهرها أو بشيء من مالها، ثم طلبت المثوبة، وقالت: إنما تصدقت عليك للثواب، وأنكر الزوج، قال: يحلف الزوج بالله ما اشترطت عليه مثوبة ولا قبلت على الثواب، ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها؛ لأن الثواب إنما يكون في الهبات، لا في الصدقات، إلا بشرط، فإذا ادعت عليه شرط المثوبة حلف على تكذيب دعواها على ما قال في الرواية ولو وهبته مهرها أو شيئا من مالهما، وقالت: أردت بذلك الثواب، لم يكن لها في الصداق ثواب باتفاق؛ لأن الثواب لا يكون في الدنانير والدراهم وكذلك إن كان المهر عرضا أو أصلا لم يكن لها في هبته ثواب، إن ادعت أنها أرادت بذلك الثواب؛ لأن أصله من نقله نحلة من الله فرضها الله فإذا تركته لم يكن لها فيه مثوبة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وأما إن وهبته شيئا من مالها سوى المهر، فادعت أنها أرادت بذلك للثواب، فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: إنها لا تصدق، إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، وهذا نص قوله في المدونة.
والثاني: إنها لا تصدق ولا يكون لها الثواب، إلا أن تشترطه، ووجه هذا أن هبة كل واحد من الزوجين لصاحبه محمولة على أنه إنما وهبته ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة.
والقول الثالث: إنها تصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقها كالأجنبيين. حكى هذا القول عبد الوهاب في المقدمات. وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده:

وسئل: عن الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده، لا تكون تلك الصدقات شيئا ولا تكون بذلك حرة؛ لأنها قد ثبت لها ولاء لا يزول، فلا يحرمها ذلك على أبيها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن أم الولد لا تباع ولا توهب، إذ ليس لسيدها فيها سوى الاستمتاع بالوطء، طول حياته، ولو تزوج أمة فولدت منه ثم اشتراها فوهبها لابنه بعد أن أعتق لعتقت عليه بالملك.

.مسألة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها:

وسئل ابن القاسم: عن رجل سأل امرأته أن تضع عنه مهرها، فقالت له: إن حملتي إلى أهلي فهو عليك صدقة، فتصدقت به عليه على أن يحملها إلى أختها وكانت مريضة، ثم بدا له أن يحملها بعدما وضعت عليه الصداق، فخرجت هي من غير إذنه، فصارت إلى أختها، هل ترى الصداق له؟ قال: إن كانت خرجت مبادرة إليها لتقطع بذلك ما جعلت لزوجها فلا شيء عليه، وإن كان بدا له في حملها وأبى أن يسير بها وعلم ذلك، رجعت عليه بما وضعت عنه.
قال محمد بن رشد: وقعت في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب أسلم مسألة معارضة لهذه في الظاهر، كان الشيوخ يحملونها على الخلاف لها، وهي قوله في المرأة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها: إن هذا حرام لا يحل؛ لأنه الدين بالدين. وقاله أصبغ، والصواب: أنها ليست بخلاف لها، إذ لا يصح أن يختلف في الذي وضعته عن زوجها صداقها على أن يحجها من ماله، إذن ذلك لا يجوز؛ لأنه الدين بالدين، وكذلك هذه المسألة، إن كانت تصدقت عليه بمهرها إلى أن يحملها إلى أختها من ماله اشتراء أو كراء، فيقول: إن المعنى في هذه المسألة إنه إذا وضعت عنه الصداق، على أن يخرج معها، ولا تمضي مفردة دونه، لا على أن يحملها من ماله وينفق عليها في شيء من سفرها سوى النفقة التي تجب عليه لها في مقامها، فإذا حملت المسألة على هذا، صحت وكانت موافقة للأصول، ولعلها لم يكن لها ذو محرم، يخرج معها، فكانت إنما بدلت الصداق له، على رفع الخرج عنها لخروجه معها، لا على أن ينفق عليها في ذلك.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة بغير محرم إلا مع ذي محرم منها»، وقد مضى في سماع عيسى من كتاب الحج القول في وضعها الصداق عنه على أن يأذن لها في الخروج إلى الحج. وبالله التوفيق.

.مسألة أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده هل يجوز له أن يشتريها:

وسئل: عمن أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده، هل يجوز له أن يشتريها من المعمر، وهي لولده من بعده؟ وهل يجوز له أن يشتري العمرى من ربها حتى يكون له أصلها كما يجوز للمعمر؟
قال ابن القاسم: أما إذا جعلت لولده من بعده، فلا يجوز لصاحبها أن يشتريها؛ لأن الأب ليس يبيع لقوم بأعيانهم، ولا يعرف عددهم، وأما المعمر فهو يجوز له أن يشتريها من صاحبها حتى يكون له أصلها إذا لم يكن لولده من بعده.
قال محمد بن رشد: أما إذا جعلها لولده من بعده، فلا يجوز للمعمر شراء الخدمة من المعمر؛ لأنه لا يملك بذلك الأصل، ولا للعمر شراء المرجع من المعمر، إذ لا يرجع إليه، وأما إذا لم يكن لولده من بعده، فيجوز للمعمر شراء الخدمة من المعمر باتفاق، ويجوز للمعمر شراء المرجع من المعمر على اختلاف.
وقد مضى بيان ذلك مستوفى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومضى ذكر الاختلاف في شراء المعمر المرجع في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب منه، وثاني المسألة مكررة في سماع أصبغ في هذا الكتاب. والله الموفق.

.مسألة تصدقت بصدقة عبد أو وليدة في حياتها وصحتها ثم ذهب عقلها:

ومن كتاب أسلم وله بنون صغار:
قال: وسئل: عبد الرحمن بن القاسم عن امرأة تصدقت بصدقة عبد أو وليدة، أو دنانير في حياتها وصحتها، ثم ذهب عقلها من قبل أن تقبض الصدقة منها، هل يكون ذهاب عقلها مثل الموت؟ أم يأخذ المتصدق عليه صدقته؟ قال: لا أرى لأهل الصدقة فيها حقا، وذهاب العقل حتى يحاز عنها مالها بمنزلة الموت، فلا حق لهم فيها.
قال محمد بن رشد: ذهاب العقل كالعرض، فإذا مرض المتصدق أو ذهب عقله قبل أن تحاز الصدقة عنه بطلت، يريد: إلا أن يرجع إليه عقله أو يصح من مرضه قبل أن يموت فتنفذ الصدقة. وتؤخذ منه، فإن لم يرجع إليه عقله، ولا صح من مرضه حتى مات، بطلت الصدقة، وإن حوزه إياها في مرضه، وهو قول ابن القاسم في رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ بعد هذا. قال: وكل من تصدق بصدقة على من بلغ الحوز، فلم يحز لنفسه، حتى مرض المتصدق، فأجازه في مرضه، فلا صدقة له وهو بمنزلة من أوصى لوارث حين منعه في صحته، وأسلمه في مرضه، فلا يجوز ذلك له، وقال: ذلك يمنع، إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا، كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، وترجع ميراثا كالإقرار بدين لوارث في المرض لما فيه من التوليج للتهمة.
وقوله: إلا أنه لا يحاص بها الورثة... إلى آخر الكلام- هو من قول ابن القاسم متصل به، فلا يجوز ذلك، وأدخل العتبي قول أصبغ في أثناء كلامه. وكان حقه أن يكون بعد تمام كلام ابن القاسم في المسألة، وإنما قال: إن الصدقة تبطل، وإن حوزه إياها في المرض، ولم يجعل تحويزه إياها كابتداع صدقة في المرض، فتكون في الثلث؛ لأنه لم يتبدئها في مرضه، وإنما ذهب إلى إمضاء ما فعله في الصحة، فوجب أن بطل.
وقوله: إنه لا يحاص بها أهل الوصايا كما يحاص بوصية الوارث- صحيح؛ لأنه إذا أوصى لوارث، فقد أراد إدخاله على الموصى لهم، وهذا لم يرد إدخال صاحب الصدقة عليهم، وإنما أراد إخراجها من رأس ماله بعد موته. وأما قوله: إنها تطرح من رأس ماله كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، فهو خلاف قوله في رسم أمهات الأولاد من سماع عيسى من كتاب الوصايا: إن الوصايات دخل في ذلك، مثل ما في الموصلي لمالك رواية يحيى، ومثل ما روى ابن وهب عنه من رواية الحارث: إن الوصايا لا تدخل في ذلك.
وجه رواية أصبغ وقول مالك في الموطأ وفي رواية ابن وهب عنه: أن الوصايا لا تدخل فيه- هو أن الميت أراد إنفاذ الصدقة من رأس ماله، وإنما ردت بالحكم لما أغفل عن تحويزها حتى مات، فوجب ألا تدخل فيه الوصايا. ووجه رواية عيسى في كتاب الوصايا: أن الوصايا لا تدخل في ذلك- هو أن المتصدق في صحته، لما لم يجز الصدقة حتى مات، دل ذلك من فعله على أنه ذهب إلى إبطالها، فوجب أن تدخل فيه الوصايا. وبالله التوفيق.